ذكريات من حرب عام 2006

السيد مولوي يطلع قائد الجيش الصربي الزائر على وضع الخط الأزرق في محيط علما الشعب، 10  كانون الأول2013 

previous next
16 يونيو 2017

ذكريات من حرب عام 2006

عدت ثانية إلى جنوب لبنان في أيلول من العام 2005 في اطار خدمتي العسكرية في حفظ السلام للمرة الخامسة مع اليونيفيل. كنت أشعر بالسعادة لأنه سوف يتسنى لي تجديــد علاقاتــي بالناس الذيــن عــرفتهم سابقا وكذلك زيارة القرى الجميلة التي ألفتها خلال خدمتي في السنوات السابقة، وشعرت أن عودتي أشبه ما يكون «عودة الى الديار» أكثر منها خدمة عسكرية في أرض أجنبية. وبصفتي كبير ضباط الارتباط، أتيحــت لي الفرصة لزيارة المواقع، وقد استمتعت بشـكـل خاص بالحريـــة المطلقــة في القيادة والمرور في القرى الودودة التي لم تعد تحت الاحتلال، وهو أمر لم أكن قادراً على القيام به في المرات السابقة. ولكن من خلال اتصالاتي ســرعان ما أصبــح واضحا أن الوجــوه المبتسمة تخفي أجــواء من الخوف، حيــث كان يستشعر الناس شيئاً من التذبذب حـول مستقبلهم (السلمي). وهذا القلق، كما علمت، هو انعكاس لحالــة عدم الاستقرار السياســي/ العسكري على طــول الخط الأزرق الذي زاد منه في كثير من الأحيان تبادل إطلاق النار المميت. وقد أثبت التاريخ أن الناس كانوا على حق وأن مخاوفهم كانت مبررة.

بحلول صيف عام 2006، انخفض عديد اليونيفيل لتصبح قوة صغيرة جدا تضم نحو 2000 شخصا، وهذا العدد يشمل الأفراد العسكريين والمدنيين. وفي الواقع، كان أحد المواضيع الرئيسية للنقاش ضمن البعثة في تلك الأيام يتمحور حول مستقبل اليونيفيل وانسحابها المتوقع والمفترض.

بدأ يوم الأربعاء الواقع فيه 12 تموز 2006 مثل أي يوم آخر، حيث ودّعت زوجتي في مدينة صور الوادعة، وتوجّهت الى مقرّ عملي. وبعدها بفترة وجيزة عند الساعة التاسعة صباحا، بدأت المعلومات في التقاطر عن أن حادثة وقعت على طول الخط الأزرق، من دون أي تفاصيل أخرى. ولم نكن ندرك آنذاك أن ما سمي «بالحادثة» كان في الواقع هجوماً لحزب الله ضد دورية للجيش الإسرائيلي وسوف تتطــور الى حـــرب مدمرة وســـاحقـــة تـــودي بحياة الكثيــر من الناس، معظمهم من المدنيين، وتدمّر الممتلكات. وكذلك لم أكن أعرف أنه سيستلزمني الأمر أشهراً لأتمكن من العودة إلى شقتي، وما يقرب من الستة أشهر لأرى زوجتي مرة أخرى، وذلك بعد إجلائها في 20 تموز.

خمسة أسابيع من الرعب والدمار
في الفترة التي سبقت الحرب، شهدت اليونيفيل عددا من المناوشات بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، وكانت تستخدم مساعيها الحميدة على الدوام لاستعادة الهدوء، ولكن حربا «كاملة» بين الجانبين لم تكن في التصوّر وأخذت الجميع على حين غرّة. ولذلك، افترضت اليونيفيل وغيرها أول الأمر أن هذه «الحادثة» التي أُبلغ عنها هي مجرد مناوشة أخرى في هذا الاطار، وسرعان ما سيتمّ حلّها كما حدث من قبل. ولكن خلال قيادتي السيارة متوجهاً الى نقطة العبور في رأس الناقورة في وقت لاحق من صباح ذلك اليوم أدركت مدى خطورة ما يجري، حيث رأيت عن كثب القتال العنيف جدا واستخدام الأسلحة الثقيلة والطائرات.

وفي حين وقعت إصابات بين المدنيين في الأيام الأولى، كان الهجوم الذي وقع بعد ظهر يوم 15 تموز صادماً لنا في الصميم، حيث أصابت قنبلة جوية من الجيش الإسرائيلي حافلة تقلّ مدنيين على الطريق بين شمع والبياضة مما أدى إلى وفاة 18 شخصاً، معظمهم من النساء والأطفال. وفي الوقت الذي تبلّغت فيه اليونيفيل بالأمركان قــد فـــات الأوان بالنسبـــة لطواقم الإسعــاف التابعة لليونيفيل التي توجهت الى مكان الحادث والتي للأسف لم تستطع أن تفعل شيئاً سوى استعادة رفات أولئك الذين ماتوا وايصالهم إلى المشرحة في صور. واليـــونيفيــل، حالها كحــال سـكان المنطقـــة، كانت تجد صعوبة بالغة في التجوّل في السيارات والوصول الى وجهتها لأن معظم الطرق والجسور والمسارات لم تكن سالكة ومدمّرة بفعل القنابل الجوية، وبالنتيجة وصلت حركة المركبات الى طريق مسدود تقريباً. في 17 تموز، وصلتنا أنباء عن أن أحد موظفي اليــونيفيـــل وزوجتــه، وكذلك جيرانهم، سقطوا ضحايا بعدما دمّرت قنبلــة جوية إسرائيلية المبنى الذي يقطنونه في صور.

ومع تقدم الحرب، حوّلت اليونيفيل جهدها الرئيسي نحو إنقـاذ السـكــان المدنيين ودعمهم، محاولةّ تنظيم ممر آمن لأولئك المحاصرين في القرى والسماح لهم بمغـادرة المنطقــة. وقـد تبين أن هذا الجهد واجه عوائق صعبة، حيث عانت اليـونيفيـــل بسبب الاتصالات المقطـــوعـــة، وكـذلك بسبب شـبكـــة الطــرق التي دمرت مما صعّــب إرسال قوافل الإغاثة إلى القرى والاستجابـة للطلبات. وقــد بذلنا قصارى جهـدنا لتنسيق هذه الحركـات مــع الصليب الأحمر اللبناني، و إرسال الإغاثة الى الأماكن التي نستطيع الوصول اليها. وبحلول الأسبوع الثاني من الحــرب، كـان العديـد من المدنيين قد حصـل على رقم هاتفي، وعند توافر ارسال شبكة الخليوي كان يصلني فيض من المكالمات الهاتفية التي تطلب إرسال المساعدة أو تنظيم المرور الآمن للسيارات الخاصـة. إلا أن هــذه المهمة لم تكن تخلو من المخاطر، ذلك أن اليونيفيل لم تكن قادرة على الحصـول على أي ضمانــة من أي نــوع حـــول الممر الآمن. كنا نشــرح بالكامــل مخاطر تسيير قـــوافــل المـــدنيين النازحين من منازلهم للمنظمين في القرى، وكانت القرارات النهائيـة في الذهاب أو البقاء تعود لهم. وكانت شروط التنسيق نفسها مفروضة أيضاً على قوافل اليونيفيل والوكالات الدولية، دون استثناء، بغض النظر عما إذا كانت مركبات لوجستية، او إمداد، او إنسانية تحمل شارات الأمم المتحدة أو تحمل شـارات بعثات الأمم المتحدة وتقوم بتقديم الإغاثة.

كانت أجواء من الكآبة والإحباط تخيم على اليونيفيل مع وصول تقارير يومية عن تزايد الضحايا المدنيين والدمار في القرى التي كثيراً ما أُحبطت جهودنا الرامية إلى مساعدتها. في هذه الفترة، أصبح مجرد إمداد مواقع اليونيفيل بالغذاء والوقود والضروريات الأساسية من التحديات الكبيرة، فاليونيفيل نفسها لم تعد محصّنة ضد العنف، وكنا نسجل كل يوم تساقط قذائف مدفعية وقنابل جوية و/أو صواريخ من نوع كاتيوشا داخل مواقعنا أو في محيطها حيث تتأثر مواقعنا بشظاياها. والعدد المسجل لحالات نجاة باعجوبة داخل مجمعات اليونيفيل من هذه القنابل والشظايا مذهل. ولكن الوضع لم يقف عند هذا الحد، ففي 25 تموز دمّرت قنبلة جوية إسرائيلية بشكل كامل موقعاً للمراقبة تابعاً للأمم المتحدة في خراج بلدة الخيام، مما أسفر عن مقتل أربعة مراقبين عسكريين غير مسلحين تابعين للأمم المتحدة. بلّغت اليونيفيل عن الحادث في ذلك اليوم وأعلنت عن سقوط نحو 14 قذيفة مدفعية وجوية بالقرب من هذا الموقع، ولكن من دون جدوى.

كان ضباط الارتباط في الجيش اللبناني يعملون معنا في المقرّ العام لليونيفيل بشكل يومي، حيث كانوا يقدمون الدعم الكبير والتوجيه، مما يساعدنا على تخطيط وتنسيق جميع التحركات العملياتية والمدنية واللوجستية والطبية والإنسانية. وبنتيجة هذه العلاقة كانت اليونيفيل قادرة على مساعدة سكان المنطقة من خلال الغوث والإجلاء.

نهاية الحرب، وبدء الحوار
وأخيراً في 14 آب من العام 2006، وضع قــرار مجلـس الأمن الدولي 1701 (2006) موضع التنفيذ، مما خفف عن الجميع. وهذا اليوم مهم أيضاً لأنه تاريخ انعقاد أول اجتماع ثلاثي بين الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي، برئاسة رئيس بعثة اليونيفيل. انعقد الاجتماع الثلاثي في البدء للإشراف بسرعة على انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان ونشر الجيش اللبناني حتى الخط الأزرق، ثم تطوّر مع مرور الوقت إلى منتدى لا غنى عنه لمعالجة المسائل المتعلقة بالقرار 1701. والآن، في عامه العاشر، تحدى هذا المنتدى الرئيسي لإدارة النزاع المنتقدين وأثبت نفسه، مرارا وتكرارا، بوصفه «آلية اختيار» يستطيع من خلالها الأطراف التعبير عن مواقفهم ولجم الانهيارات المحتملة أو الفعلية لوقف الأعمال العدائية.

وبصفتي مراقب ومشارك في هذا المنتدى الفريد منذ إنشائه، أستطيع القول أنه لولا هذا المنتدى لتسبب عدد من حالات التوتــر على الأرض بعواقــب خطيرة، وربما أدت الى استئناف العنف. وثمة آلية أخرى فعالة بنفس القدر لبناء الثقة تحققت من خلال الاجتماع الثلاثي، وأعنــي بها الاتفاق علــى قياس وتعليــم الخــط الأزرق. وهذه العملية المستمرة والتي تقودها اليونيفيل ساعدت الأطراف على جعل الخط مرئياً في العديد من المناطق، وبالتالي إزالة اللبس أمام جميع المعنيين والمدنيين على حد سواء، وكذلك إزالة إمكانية سوء الفهم.

الجيش اللبناني ينتشر جنوب نهر الليطاني
إن صمـــود اللبنانين أسطــوري، وهــو ما شهــدت عليــه اليونيفيــل على مدى سنوات عديدة، بدءاً منذ انتشارها الأول في عـام 1978. وهـــذا الإصرار علـى إعـادة بناء البشر والحجر كان واضحا مرة أخرى مع الاعلان عن وقف الاعمال العدائية بعدما بدأ أبناء الجنــوب العودة على الفـــور إلى قـراهم. وإزاء هذا الأمــر، لا يستطيــع المـرء الا أن يبدي إعجابه ويشيد بقدرة اللبنانيين على إعادة بناء حياتهم.
ولكـن خـلافا لما حــدث في عــام 2000، في هــذه المــرة كان هنـاك إضافــة هامـة جدا ومميزة مع عودة سكان الجنـوب، فهذه المرة عادوا برفقـة جيشهم، أي القوات المسلحة اللبنانية. وبفرح كبير، ناهيك عن الفخر، رحّب أبناء الجنــوب بآليات القــوات المسلحـة اللبنانيـة بينما كانـت تعبـر نهـر الليطانـي مروراً بالقــرى ووصـولاً الــى الخط الأزرق. وأخيـرا، وبعدما تمركز الجيش اللبناني في مواقعه العملياتية والجديدة، بدا جليا جدا بالنسبة لي أن منطقة جنــوب لبنان نعمت بنفحــة جديــدة من أجـواء الحياة الطبيعيــة والأمن، وهي الميزة التي كان غيابها لافتا في الفترة بين عامي 2000 و2006.


حياة مزدهرة
الآن، وبعد عشر سنوات من انتهاء حرب عام 2006، يمكننا أن ننظــر إلى الــوراء الى ما أسميــه «عقـد من الهدوء»، وتسجيل ملاحظة حول الأمر الذي لا يمكننا تسميته سوى بـ «جذور جديدة للسلام» بدأت تترسخ في الحياة اليومية للسكان المدنيين. أنا أرى كل يوم أهالي سعداء ومرتاحين يتوجهـون الـى أعمالهم أو يـوصلــون أطفالهم إلى المدارس. لقــد عـادت الحيـاة الطبيعيــة، ومستويات القلق تتلاشى شيئاً فشيئاً. من جانبها، تعمـل اليونيفيل بشكل وثيق مع العديد من البلديات والسلطات المحلية لدعم مجتمعاتهم بقــوة وحيثما أمكـن، ولدعم استمرارية هذا المناخ الإيجابي على المضي قدماً.

واذا ما اردنا الوصول الى خلاصة، اسمحوا لي أن أقــول اننا نعرف الماضي السلبي، ونحن نتمتع بالهدوء الحالي، والآن علينـا أن نعمــل لضمان مستقبـل يسوده السلام. ان أبنـاء جيــل عـام 2006 من الأطفـال اللبنانيين في المدارس اليوم أصبح عمرهم عشر سنوات، وعلى عكس آبائهم وأجدادهم، فإنهم لم يشهدوا حرباً في قراهـم ومدنهم على الاطلاق. أنا واثق من أن الأطفال الصغار اليـوم ســـوف يقدّرون انطلاقـــة حياتهم التي ســادهـا السلام في السنوات المقبلــة.

فريدريك (العظيم) لخّص الأمـور بشكـل رائع عندما قــال: «ما نفــع الخبــرة إذا لم نتفكّــر فيها». والآن، في عـام 2016، وبعـد عقد من الزمن، ليس لدي شك في أن تفكيرنا الجماعي وخبرتنا تضافــرا لتكوين الهدوء الحالي الذي نعيشه. كما أنني على ثقة بأن هذا العمل المتكاتف مع المجتمع المحلي والقـوات المسلحة اللبنانية سوف يضمن احلال مستقبل يسوده السلام ويمكن أن يأخذنا إلى العقد المقبل وما بعده، إن شاء الله.

 

بقلم جون مولوي

(جون مولوي هو حاليا أحد كبار موظفي قسم الشؤون السياسية في اليونيفيل حيث يتابع بشكل أساسي المنتدى الثلاثي والقضايا المتعلقة بعملية وضع العلامات المرئية على الخط الأزرق، وقد كان سابقا كبير ضباط الارتباط في بعثة الأمم المتحدة منتدبا من قبل قوات الدفاع الايرلندية خلال حرب عام 2006. أكمل السيد مولوي خدمته العسكرية للمرة السادسة مع اليونيفيل في كانون الأول من العام 2007، ومن ثم عاد إلى العمل في حفظ السلام في اليونيفيل في نيسان من العام 2008 بصفة مدنية. وقد كتب هذا المقال لـ «الجنوب» مستعيدا ذكرياته التي عايشها شخصيا وعن كثب خلال الحرب.)

(نشر هذا المقال للمرة الاولى في مجلة اليونيفيل "الجنوب" في كانون الأول 2016)